29/03/2024
الأخبار السياسية | الأخبار الأمنية | أخبار المحافظات | الأخبار العربية | الأخبار العالمية | أقوال الصحف العراقية | المقالات | تحليلات سياسية | تحقيقات | استطلاعات
عالم الرياضة | حوار خاص | الأخبار الثقافية والفنية | التقارير | معالم سياحية | المواطن والمسؤول | عالم المرأة | تراث وذاكرة | دراسات | الأخبار الاقتصادية
واحة الشعر | علوم و تكنولوجيا | كاريكاتير
الموسيقى الهنديّة.. لغة كونية تعانق الروح
الموسيقى الهنديّة.. لغة كونية تعانق الروح
أضيف بواسـطة
أضف تقييـم
وكالة الانباء العراقيه المستقله - بغداد



النّدفة الأولى.. وانمزق المكان!، وبإيماءة واحدة.. نأينا عن هذا الزّمان!، تمتدّ أمام ناظرينا صحاري رحيبة منفتحة على بحار مديدة.. آه أيّتها الذّاكرة، أيّتها الطّفولة المترعة سراباً إنّ الجدب ليتلألأ! من الغسق إلى الأمد المجهول موكب من الحضور والأنفاس حيث تطلق كلّ الأشياء رنيناً سماويّاً، إنّها السّاعة التي يغرق فيها الخلق في تناغم الأسرار فارس ينتبذ وحيداً في الغبار عند الأفق، امرأة تحمل الظّلمة في جرّة على كتفها طائرات ورقيّة أخيرة تتزلّج بين النّجوم، إيقاع المساء يبدو وكأنّه ارتجافة متكرّرة قُرْبٌ نداءٌ، أنينٌ لا نهائيّ ينشد القربان الأسمى، حيث يستحيل السّمع بصراً أو البصر سمعاً مصيخاً، قوس رام ناريان ينفلت في عيد رتق سرّ القلب الكليم ويوقظ بين اللّيل والعتمة جرماً من الأنوار السّاطعة، أهزوجة من بروق وامضة تحت سماء من الغيوم خالية، روح «السّارنغي» تسترجع إرث طير مهاجر هزّه التّيه إلى الآفاق القصيّة، فنسي كيف يحطّ على الأرض.
كان ذلك هو إحساس الشّاعر الفرنسيّ أندريه فلتار بموسيقى رام ناريان، العازف الهنديّ المقتدر على آلة «السّارنغي».. فحين تسري الموسيقى الهنديّة في الأجواء، فتلك علامة بأنّ سرّاً خفيّاً بات ينساب في الأنحاء، وبأنّ إيقاعات غريبة وسريّة سوف تنبثّ على مهل في صماخ الآذان وتجلب للأعين الذّاهلة خيوط فجر أبلج ولهان، وإنّه لتوارد مبهج لرّوائح فائحة.. زكيّة وألوان قزحيّة بهيّة، يرى فيها أساطين هذه الموسيقى أصل كلّ الأشياء، وحبل التّواصل المتين الذي يشد السّامع إلى كلّ ما هو كائن في المكان وفي الزّمان.

تنسّك صارم
وتتحدّث الأساطير عن قدّيسين كانت تنبعث منهم ريح طيّبة، ريح آسرة فاغمة للأنفاس وملهمة للإحساس، بل كان يشاع أن تلك الرّيح الفائحة كانت لا تنفكّ تقتفي أثر ذبذبات موسيقى آنّا بورنا ديفي. وكانت آنّا بورنا، زوجة رافي شنكار، العازف الأشهر على آلة السّيتار، قد تملّكت في نظر العارفين أسرار الموسيقى الهندوستانيّة، موسيقى شماليّ الهند، وبلغت في أدائها درجة الكمال.
ومع ذلك، ووفقاً للأعراف السّائدة، كان يفترض أن تكون ممارسة فنّ الموسيقي عند الهنود نابعة من حالة تنسّك صارم وإحساس روحيّ عميق، حالة تأمّل في النّفس تحدو بصاحبها إلى منازل السّكينة والصّبر، وحافزة للتحكّم في الذّات وفي نسق التنفّس، وقائمة أيضاً على الإخبات للمرشد وتوقيره، فمتى كان ذلك المرشد قادراً على تلقين معرفته لمريده، جعلته تلك المعرفة يتخطّى حدود تهجّي الصّوت، لأنّ قيمتها الأنفس.. قيمة روحيّة، إذ في الوقت الذي سيتعلّم فيه المريد كيف ينمّي إحساسه بالموسيقى، سوف يغدو أقدر على نقل ذلك الإحساس إلى الآخرين.

صوت جوهريّ
ولئن كانت الموسيقى منذ أزمنة غابرة، ولدى كلّ الشّعوب، وسيلة لملامسة أدقّ الزّوايا حميميّة في النّفس البشريّة، فإنّ تعلّم أصول هذا الفنّ في الهند كان يستدعي، فضلاً عن ذلك، استنفار كلّ الطّاقة الكامنة في باطن الإنسان، فليست الحالات الأثيرة مثل السّكينة والصّبر هي الكفيلة وحدها للمريد بالبقاء في وضعيّة ثابتة لساعات طوال، إذ يحتاج الموسيقيّ الهنديّ أيضاً إلى حضور قلبيّ موصول ويقظة ذهنيّة مطلقة في اللّحظة الرّاهنة التي تنكشف له فيها أسرار النّغمات الموسيقيّة، فحالات السّكينة والتأمّل يتيحان للموسيقيّ استشعار ذبذبات أخرى غير الذّبذبات المألوفة، والانخراط بملء كيانه في حيّز بينيّ لا يتّسع له لا المكان ولا الزّمان: «النّدا»، الذي يعني باللّغة السّنسكريتيّة.. الصّوت الجوهريّ أو الصّوت المطلق، ويعقّب رافي شنكار على ذلك قائلاً «تظلّ الموسيقى الهنديّة في جوهرها موسيقى روحيّة، وكلّ التّآليف الموسيقيّة، تنبثق من ذلك الصّوت السريّ والمبهم.. النّدا»، وتعود إليه.
ويرى العارفون بالموسيقى الهنديّة أنّ كلّ الدّرجات الموسيقيّة تندمج في صوت أوحد، صوت محض ومطلق، منه تتوالد بقيّة الأصوات والدّرجات الصّوتيّة، جوهريّ، يكون هذا الصّوت في ذات الوقت هو الأصل ومصدر كلّ عمل إبداعيّ، وقد يحيل هذا الصّوت على التّذبذب الثّابت الذي تصدره الأرض، أي ذلك الارتجاج الأرضيّ الصّوتيّ الذي اكتشفه باحثون يابانيّون سنة 1998، والحال أنّ هذا الصّوت الغريب، صوت لا تدركه الآذان الغافلة، إذ المتأمّلون في سرّهم الباطن هم وحدهم القادرون على سماع تردّداته. ويرى رافي شنكار أنّ المفارق في هذا الأمر أنّ ذلك الصّوت لا يفصح عن وجوده إلاّ في حالات الصّمت، وفي هذا الصّدد يقول موضّحاً «لا وجود لموسيقى آسرة بلا صمت باطنيّ، لذا يحتاج الموسيقيّ، عبر التنسّك ورياضة اليوغا، إلى الامتلاء بمثل ذلك الصّمت!».

التوحّد مع الكون
ينخرط الفنّ الموسيقيّ وفقاً للتقاليد الأصيلة لهذا الفنّ في الهند، في حالة تواصل وثيق مع الكون الذي بأصواته وأشكاله، لا أثر فيه لغير الانسجام والتّناغم، وحين يؤدّي الموسيقيّ ما يعرف بـ«الرّاغا»، فإنّه يغدو في تمشّيه الموسيقيّ والرّوحيّ، ترجماناً لذلك التّناغم، وقد نترجم كلمة «الرّاغا» بحالة وجد تولّدها مجموعة من الأصوات المثيرة للأحاسيس والمشاعر، وهي أصوات قوامها التّناغم والانسجام.
وبالنّسبة للموسيقيّ الذي ينبض كيانه وفقاً لإيقاعات الكون المقدّسة، لا يمكن أن يقتصر تتابع النّغمات على سلسلة من الفواصل الموسيقيّة المتقطّعة، بل تشكّل كلّ نغمة ذبذبة صادرة عن باطن الموسيقيّ، تحدث بالانتقال من نغمة إلى أخرى ما يشبه التكوّر الصّوتي، على نحو يجعلها متى تماسّت مع النّبض السرّي للموسيقيّ، تنتج في مجموعها وحدة صوتيّة متناغمة، هي أقرب ما تكون إلى النّبض الكونيّ، ومتى سرت تلك الذّبذبة المتواترة في جمهور السّامعين، ومتى كان ذلك الجمهور مستوعباً لها بالقدر الكافي، توقّف الزّمن واستحال إلى حالة تأمّل تعبّديّ تعيد إلى الأشياء ائتلافها وتناغمها، أو لا تكون الموسيقى بهذا المعنى لغة كونيّة؟.

رابط المحتـوى
http://www.ina-iraq.net/content.php?id=81609
عدد المشـاهدات 1518   تاريخ الإضافـة 17/06/2021 - 16:09   آخـر تحديـث 28/03/2024 - 18:22   رقم المحتـوى 81609
 
محتـويات مشـابهة
دراسة تربط أمراض القلب والمبالغة بتناول أنواع من الفيتامينات
غريبة الروح.
المندلاوي يدعو لتشكيل تحالف دولي "اقتصادي"بدلاً عن لغة السلاح والحروب
اللغة الجيّاشة والتقنية المغايرة في تجربة (حائط المساء لنوفل أبورغيف)*
قواعد اللغة العربية درس ومناج مطلوب
 
الرئيسية
عن الوكالة
أعلن معنا
خريطة الموقع
إتصل بنا