خاص ,, وكالة الأنباء العراقية المستقلة بغداد ,,
الفن و التمرد جعلا شخصيتها مميزة
نحن كقراء أمام نموذج من النساء ذات الصفات المحببة حيث تنحاز شخصيتها بكليتها
الى الشعب و تصبح شعبية انسانية ..
و هكذا كانت انجي أفلاطون
تعال معنا في هذا الموضوع
لنرى التفاصيل عنها ..
و هذا صحيح , و حياة انجي الرسامة العظيمة التي تجاوزت المحلية الى
العالمية , و المناضلة التي آمنت بالاشتراكية منذ مطلع شبابها , واحتملت في سبيل
نضالها كل مشاق الهروب و السجن و الاعتقال و الملاحقة – جديرة بأن تكون نموذجا لصلابة
الايمان بالمبدأ , والعمل في سبيل تحقيقه , مهما لقي صاحبه من عقبات .
و نقطة الامتياز هنا ان شروط حياتها لم تكن تؤهلها لشيء من هذا كله : هي
بنت الأرستقراطية المصرية ذات الاصول التركية , جدها الأكبر حسن الكاشف شخصية
معروفة في تاريخ العسكرية المصرية , ولي (( نظارة الجهادية و البحرية )) – أي
وزارة الحربية – في الوزارة التي شكلها محمد توفيق في 1879 و مات عن تركة واسعة من
الأراضي الزراعية . و أبوها – الدكتور حسن أفلاطون – درس العلوم في جامعات سويسرا
و انكلترا , ورجع مدرسا بكلية الطب , ثم انتقل لكلية العلوم حين انشأت , و أصبح عميدا
لها بضع سنوات , وامها بنت عم أبيها صالحة أفلاطون .. أول مصممة أزياء مصرية ,
شجعها طلعت حرب على اقتحام هذا المجال الذي كان حكرا لليهود و الأجانب , وسرعان ما
أصبحت مصممة أزياء الأميرات و نساء الأرستقراطية المصرية و المتمصرة .من أين جاءت الصبية
الصغيرة بذرة التمرد على واقعها المترف ؟ قد لا نعرف جوابا محددا , لكنها تقول لنا
: انها بدأت تعبر عن نفسها حين أدخلها أهلها مدرسة من مدارس (( بنات الذوات )) هي مدرسة الساكر كير , أو القلب المقدس )) , و
كانت مشهورة بصرامتها و تزمتها , و بأنها المدرسة التي تخرج الفتيات المثاليات في
الطاعة للأسرة و الزوج , بعد أن تجعلهن في الصورة التي يرضى عنها مجتمع الرجال التقليدي
, و سرعان ما ضاقت الصبية بتلك القيود : (( لقد كرهت بكل شعوري و وجداني تلك
المدرسة , و شعرت انها أقرب الى السجن , كرهت القيود على حريتي , و العيون التي
ترصد حركاتي و سكناتي و تدين كل ما أفعله , و أدركت لأول مرة – و لم أكن قد تجاوزت
الثانية عشرة أن التمرد حالة ضرورية للتصدي للظلم الواقع علي , قررت أن أبدأ . و
من هنا أستطيع أن أقرر .. دون فخر , و ايضا دون تواضع .. ان التمرد كان السمة التي
لازمت حياتي فيما بعد )) .
و هذا صحيح كذلك .لقد تمردت انجي على تقاليد طبقتها الفارغة و ممارساتها ,
في الفكر و العمل , في الحب الزواج , في
الايمان بالناس و الموقف من الاستعمار و السلطة المتحالفة معه . من (( الساكر كير ))
الى (( الليسيه الفرنسيه )) حيث أتمت دراستها , و أصرت على ضرورة أن تعمل كي تحقق
استقلالها الاقتصادي و الحياتي , لكن اصرارها الرئيسي كان أن تقوم بعملية (( تمصير
)) كاملة لذاتها , كانت – حتى السابعة عشرة – لا تتحدث بغير
الفرنسية , وحين بدأت تختلط بالناس وجدت لسانها معقودا !
وبعزيمة صلبة و تصميم قاس , بدأت
تتعلم العربية , وشيئا فشيئا راحت تتعرف على حياة (( الناس الي تحت )) , اولئك الذين ستربط مصيرها بمصائرهم حتى نهاية
العمر . كانت هوايتها للرسم واضحة , وكانوا يأتون لها بمدرسين خصوصيين يعلمونها , و
لعل أهم مفاجئات عمرها , والتي قادت خطاها نحو الطريق الذي استوعب فنها و حياتها جميعا
. ان أحد اولئك المدرسين لم يكن سوى الفنان الطليعي , الرسام السينمائي الكاتب ,
كامل التلمساني . تقول انجي : لم يمض وقت طويل حتى أدركت أن دروس التلمساني ليست
دروسا في الرسم فقط , بل نافذة ساحرة على الحياة , و على مصر الحقيقية , نافذة على
المعنى الحقيقي للفن و الرسم ليس الا التعبير الصادق عن المجتمع و الذات – هكذا تعلمت من التلمساني . لقد طلب
مني نسيان كل القواعد المدرسية الجامدة . و كانت دروسه محاضرات مفتوحة عن تاريخ
الفن والانسان عبر العصور مع ابراز نضال الانسان من أجل التقدم )) . و اندفعت انجي
ترسم و التلمساني يزداد حماسة لها , فيشركها في معارض (( جماعة الفن و الحرية )) ,
و دخلت بنت الارستقراطية دائرة مثقفي اليسار. و انطلقت تقرأ عن الفقر و الاستغلال المزدوج
للمرأة في قضايا الاستعمار و التحرر الوطني
.. الخ باختصار تقول : وجدت نفسي
(( وجدت نفسي أقتنع بعمق و صدق بالاشتراكية العلمية و بالعمل الوطني من أجل
تحرير بلادي من وطأة المستعمر و تحكم الاقطاع و الطبقة البرجوازية المتعاونة مع المستعمر
)) .و باختصار أيضا اختارت الانضمام الى لأحدى المنظمات الشيوعية التي كانت قائمة وقتذاك
هي منظمة ( ايسكرا ) و ذلك في نفس السنة التي أنهت فيها دراستها :
1944 , وشرعت تزيد من اسراعها في تعلم العربية, الأداة الضرورية لممارسة
العمل السياسي ( تروى لنا هنا واقعة طريفة ) : تطوع الشاعر فؤاد حداد – و قد كان مثلها
ذا ثقافة فرنسية – متخرجا من الليسيه – أن يعلمها العربية , وفي أحد الدروس عرضت
كلمة (( الهوى )) فحسبتها تعنى (( الهواء )) و فسرتها على هذا النحو , فما كان من
الشاعر الا أن ضحك و سألها : الله , انتي ما جيتيش أبدا بالعربي ؟
و ظلت انجي تسعى للاشتراك في
مؤتمرات الطلبة و النساء في العالم . و تشارك في النضال العلني , و تقوم بدور فعال
في كل الانشطة ذات الطابع الوطني و الديموقراطي في تلك الفترة الحافلة ما بين انتهاء
الحرب العالمية ويوليو 1952 , وفي تلك الأثناء – في 1948 – تزوجت انجي - عن حب و
اختيار – من وكيل النيابة (( محمد أبو العلا )) الذي كان منتميا – بدوره – تنظيمات
اليسار و حقق لها الزواج كثيرا من ما تفتقده , وأعادها الى ممارسة فنها الجميل الذي
كانت قد توقفت عن ممارسته منذ حوالي العامين .
كانت المرحلة الاولى مرحلة التحرر و التعبير عن الذات , أي المرحلة
السوريالية قد انتهت باندماجي الكلي في العمل السياسي و اقتناعاتي الايديولوجية الثورية
.
فكان لابد من طريق جديد في الفن ..
كانت رغبتي الأساسية حينئذ هي أن أعبر عن
رغبتي في اقع و أحلام الانسان البسيط المطحون الذي يكدح اليوم بطوله في ظروف عمل
بشعة .. كنت أريد أن أكشف لكل الناس استغلال الانسان للإنسان .. و أضع في دائرة
الفن وضع المرأة المتخلف في المجتمع المصري .. و كان هذا يتطلب مني أن أدرس الرسم
من جديد دراسة حقيقية .. و هكذا التحقت انجي بمراسم عديدة , و بالقسم الحر في كلية
الفنون الجميلة ..
و بعد ذلك أستطيع أن أقرر أن
المدرسة الكبرى التي تعلمت منها حقا و أحببتها لأنها مصدر الهامي كانت هي بلدتي في
الريف )) .
امتلكت الفنانة الموهوبة أدواتها , اذن , فانطلقت تعبر عن أفكارها الجديدة
و وجدانها الشاب من خلال فنها الجميل , تقيم المعارض و تحصل على التقدير و الجوائز
من هنا و هناك .
ألم يكن غريبا أن تتجه انجي أفلاطون نحو الكتابة , هي التي كانت تعاني عجزا
عن التعبير بالعربية ؟ لكن هذا وجه آخر من وجوه التحديات التي واجهتها , و التي
كان يجب عليها أن تقهرها ! كتبت كتيبا صغيرا بعد عودتها من المؤتمر النسائي الذي
حضرته في باريس في 1947 , كان عنانه (( 80 مليون امرأة معنا )) . و كان يهدف الى تعريف
الناس بنضال المرأة أثناء الحرب العالمية الثانية و دورها البطولي في مقاومة
الاحتلال النازي و الفاشية , (( كما كان الكتاب يهدف الى ابراز أهمية الوحدة بين
نساء العالم لنيل حقوقهم العادلة .
و ظلت انجي تخوض معارك النضال الوطني
ذات الطابع التقدمي و الديموقراطي . و تتوهج و يتدفق عطائها في لحظات المواجهة :
في 1951 و الكفاح المسلح في القناة , في 1956 و صد العدوان الثلاثي , في انتخابات
(( مجلس الامة )) في 1957 ( و الشيء المحزن حقا في تاريخها الشخصي هو رحيل زوجها و
رفيقها المفاجيء في أعقاب هذه الانتخابات , كان في الرابعة و الثلاثين , و كانت في
الثالثة و الثلاثين , ولم يعوضها شيء عن فقده و انكسار قلبها سوى مزيد من الانغماس
في العمل )) .
و ظلت كذلك تمارس عملها التنظيمي السري حتى أصبحت في (( اللجنة المركزية ))
للتنظيم الذي تنتمي اليه , وحين بدأت حملة الاعتقالات الضارية مع اليوم الاول من
1959 قررت انجي الاختفاء و الاستمرار في النشاط , لكن هذا لم يدم طويلا : القى
القبض عليها في مايوا من ذات السنة , وكانت بنت الارستقراطية العريقة متنكرة في
ثوب فلاحة مصرية !
و قضت انجي السنوات من 1959 الى 1963 في سجن القناطر للنساء , و تشغل
ذكريات السجن ( و أثمنها : كيف يكون الفن الحقيقي قادرا على تخطي الجدران الى
العالم الرحب ) , حيزا كبيرا في المذكرات التي تنتهي بإطلاق سراحها : , (( فقد كان
تصميمها منذ البداية أن المذكرات حديث عن الذات و المجتمع و بانتهاء ما هو عام ينتهي
هذا الحديث )) .
تحية
لذكرى سيدة مصرية عظيمة , اختارت – بمليء حريتها – أن تهجر طبقها المترفة و المترهلة
الخاوية العقيم , و أن تمسك أعنة حياتها بيد قوية – ذات اليد التي كانت تمسك
الفرشاة - , و أن تصنع بها ما شاءت أن تصنع .
و
كانت جائزتها الثمينة ان تحققت : انسانة و فنانة و مناضلة , و ان نعمت طويلا بمسرات
العقل و القلب و الروح و الجسد |